تتبنَّى دول العالم نُظمًا اقتصادية معيَّنة تحدد التوجه الاقتصادي للمجتمع، وتؤثر تأثيرًا مباشرًا في جميع الجوانب السياسية، والصحية، والتعليمية، والبيئية. وبالحديث عن الجانب الأخير توجَد محاولات عدَّة حاليًّا لفهْم علاقة السياسات الاقتصادية بالبيئة، ودورها الإيجابي، أو السلبي، في ظاهرة الاحتباس الحراري، فما أفضل السياسات الاقتصادية ذات الصلة بالبيئة؟ وكيف نشأت أساسًا؟
بالرجوع إلى القرن الثامن عشر، وتحديدًا إلى عام 1776، نجد أن آدم سميث، عالم الاقتصاد الأسكتلندي، طرح مفهوم «اليد الخفيَّة» في كتابه المؤثر «ثروة الأمم»، وهذه اليد كناية عن ديناميكيات السوق التي تدير العجلة الاقتصادية في الأسواق الحرة من أجل التقدم، وترتكز على مبدأ التنافسية المفتوحة، وعدم تدخل الجهات المشرِّعة للقوانين، ما يدفع الاقتصاد إلى النمو. وقد شكَّل هذا المفهوم نواة الرأسمالية التي قادت الاقتصادات الغربية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
وبعد الحرب العالمية الأولى، ونتيجة الركود الاقتصادي الضخم الذي مَرَّت به دول العالم، وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، تبنَّت الحكومات الغربية نظامًا اقتصاديًّا قائمًا على فلسفة الاقتصادي البريطاني جون كينز، الذي حضَّ على إطلاق أيدي الحكومات في الاقتصاد، وتدخُّلها بسنِّ قوانين وتشريعات، وإطلاق برامج تنظم التداول الاقتصادي، وكان من أبرز هذه البرامج ما يُعرَف ب«الصفقة الجديدة» التي طرحتها إدارة فرانكلين روزفلت، الرئيس الأميركي الأسبق، من عام 1933 إلى 1939، وتضمَّنت إصلاحات اقتصادية عدَّة مباشرة من الحكومة الأميركية، ودعمت القطاع العام.
وإبَّان سبعينيات القرن الماضي أدى الركود الاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا -نتيجة أزمة الطاقة العالمية في عام 1973- إلى تبني رونالد ريجان، الرئيس الأميركي الأسبق، ومارجريت تاتشر، رئيسة وزراء المملكة المتحدة، ما يُعرف ب«النيو-ليبرالية»، التي تنادي -مثلها مثل الرأسمالية- بالحد من التدخل الحكومي في الأسواق، وخصخصة الاقتصاد، فانتشرت في العالم سريعًا، وكانت من الأسس التي بُنيت عليها العولمة الاقتصادية التي ميزت أواخر القرن العشرين، ومطلع القرن الحادي والعشرين، ولكنْ بعد الركود الكبير والأزمة الاقتصادية العالمية في عام 2008 بدأت مراجعتها مرة أخرى، وتدخلت الحكومات -مرةً أخرى- تدخلًا كبيرًا لتقويم الأسواق.
وممَّا تُمكِن قراءته من هذه الرحلة السريعة تأرجُح العالم بين نظامين اقتصاديَّين أحدهما قائم على خصخصة الأسواق وتقليص الإنفاق الحكومي، والآخر يرى أن تدخل الحكومات بالتشريعات والإنفاق المباشر يؤدي إلى نتائج مثمرة منها الحد من نِسب البطالة، وانتشار التعليم. ويمتد هذا الخلاف إلى التعامل مع البيئة أيضًا، فمن منظور النيو-ليبرالية تكمُن أمثل طرق تقليل الانبعاثات في فرْض ضريبة عالمية على الكربون، ما يؤدي بطريقة غير مباشرة إلى تحريك اليد الخفية، وإلزام المصانع والشركات الحدَّ من هذه الانبعاثات من دون أن تفرْض الحكومات ذلك. أمَّا على الجانب الآخر، فيرى أصحاب التوجه «الكينزي» أن فرْض مثل هذه الضرائب ستكون له أضرار كبيرة على الاقتصاد، وأن الحل الأجدى هو الدعم الحكومي المتمثل في الإنفاق المباشر، وسن التشريعات المناسبة، ومن الأمثلة على ذلك إعلان دول عدَّة إلزامية التحوُّل إلى المواصلات الكهربائية في عام معين.
وتتبع دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجًا هجينًا فريدًا من نوعه في هذا الجانب، فإضافةً إلى الدعم الملموس للقطاع الخاص حاليًّا، وتسهيل أدوات المنافَسة في السوق المحلية، المقدمة إلى الشركات الخاصة الوطنية والإقليمية والعالمية بأسلوب مبتكر يؤدي إلى نتائج إيجابية في مجال البيئة، تضخ الحكومة استثمارات كبيرة لدعم قطاع الطاقة المتجددة، إذ أُعلن أخيرًا استثمار دولة الإمارات 54 مليار دولار على مدى السنوات السبع المقبلة لزيادة القدرة الإنتاجية للطاقة المتجددة، ودعم هذا القطاع الحيوي، والوصول إلى الحياد المناخي في عام 2050.